فصل: تفسير الآيات رقم (61- 62)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏23‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ‏(‏24‏)‏‏}‏

أكْرَمُ خَلْقِه في وقته كان موسى عليه السلام، وأخَسُّ خَلْقِه وأذَلُّهمِ في حُكْمِه وأشدُّهم كفراً كان فرعون؛ فما قال أحدٌ غيره‏:‏ ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏‏.‏

فَبَعَثَ اللَّهُ- أخصَّ عباده إلى أخسِّ عباده، فقابله بالتكذيب، ونَسبَه إلى السِّحر، وأنْبَهُ بكل أنواع التانيب‏.‏ ثم لم يُعَجِّلْ اللَّهُ عقوبته، وأمهله إلى أن أوصل إليه شِقْوَتَه- إنه سبحانه حليمٌ بعباده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

عَزَم على إهلاكه وإهلاك قومه، واستعان على ذلك بجُنْدِه وخَيْلِه ورَجْلِه، ولكن كان كما قال الله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلاَلٍ‏}‏، لأنه إذا حَفَرَ أحدٌ لِوَلِيٍّ من أولياء الله تعالى حُفْرةً ما وقع فيها غيرُ حَافِرها *** بذلك أجرى الحقُّ سُنَّتَه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏وَلْيَدْعُ رَبَّهُ‏}‏ أي لِيَسْتَعِنْ بربه، وإني أخاف أن يبدل دينكم، وأخاف أن يُفْسِدَ في الأرض، وكان المفْسِدُ هو فرعون، وهو كما قيل في المثل‏:‏ «رمَتْنِي بدائها وانْسَلَّتْ» ولكن كادَ له الكيد، والكائد لا يتخلص من كيده‏.‏

فاستغاذ موسى بربه، وانْتُدِبَ في الردِّ عليهم مؤمِنٌ بالله وبموسى كان يكتم إيمانه عن فرعون وقومه‏:‏-

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

نَصَحَهُم واحتَجَّ عليهم فلم ينجح فيهم نُُصْحٌ ولا قَولٌ‏.‏ وكم كَرَّرَ ذلكْ المؤمن من آل فرعون القولَ وأعاد لهم النُّصْحَ‏!‏ فلم يستمعوا له، وكان كما قيل‏:‏

وكم سُقْتُ في آثاركم من نصيحةٍ *** وقد يستفيد البغضة المتنصِّحُ

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

بَيَّنَ أنَّ تكذيبَهم كتكذيب آبائهم وأسلافهم من قبل، وكما أهلك أولئك قديماً كذلك يفعل بهؤلاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ‏(‏36‏)‏ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحاً لَّعَلِّى أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّى لأَظُنُّهُ كَاذِباً‏}‏‏.‏

السببُ ما يُتَوَصَّلُ به إلى الشيء؛ أي لعلِّي أصل إلى السماء فأطَّلِعَ إلى إله موسى‏.‏ ولو لم يكن من المضاهاة بين مَنْ قال إن المعبودَ في السماء وبين الكافر إلا هذا لكفي به خِزْياً لمذهبم‏.‏ وقد غَلِطَ فرعونُ حين تَوَهَّمَ أنَّ المعبودَ في السماء، ولو كان في السماء لكان فرعونُ مُصِيباً في طَلَبِه من السماء‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَكَذَالِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى تَبَابٍ‏}‏‏.‏

أخبر أنَّ اعتقادَه بأنَّ المعبودَ في السماء خطأٌ، وأنَّه بذلك مصدودٌ عن سبيل الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ‏(‏38‏)‏ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

أصَرًَّ على دعائه وأصَرُّوا على جحودهم وعُنُودِهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا‏}‏‏:‏ في المقدار لا في الصفة؛ لأن الأولى سيئة، والمكافأةُ من الله عليها حسنةٌ وليست بسيئة‏.‏

‏{‏وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ يعني في الحال، لأنَّ مَنْ لا يكون مؤمناً في الحال لا يكون منه العملُ الصالح، ‏{‏فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏‏:‏ أي رزقاً مؤبَّداً مُخَلَّداً، لا يخرجون من الجنة ولا مِمَّا هم عليه من المآل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

وهذا كُلُّه مِنْ قَوْلِ مؤمنِ آل فرعونَ، ويقوله على جهة الأحتجاج لقومه، ويلزمهم الحجة به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ‏(‏42‏)‏‏}‏

تدعونني لأكفر بالله وأشرك به من غير علم لي بصحة قولكم، وأنا أدعوكم إلى الله وإلى ما أوضحه بالبرهان، وأقيم عليه البيان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ‏(‏43‏)‏‏}‏

لا جَرمَ أنَّ ما تدعونني إليه باطل؛ فليس لتلك الأصنام حياةٌ ولا عِلْمٌ ولا قُدْرَةٌ، وهي لا تنفع ولا تَضُرُّ‏.‏ ولقد علمنا-بقول الذين ظهر صِدْقُهم بالمعجزاتِ- كَذِبَكُم فيما تقولون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏44‏)‏‏}‏

أفوض أمري إلى الله، وأتوكل عليه، ولا أخاف منكم، ولا من كيدكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏

‏{‏فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ‏(‏45‏)‏ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ‏(‏46‏)‏‏}‏

والآية تدلُّ على عذاب القبر‏.‏

ويقال إنَّ أرواح الكفار في حواصل طير سُودٍ تُعْرَضُ على النار غدواً وعشياً إلى يوم القيامة حيث تدخل النار‏.‏

‏{‏أَدْخِلُواْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ‏}‏‏:‏ أي يا آل فرعون أُدخُلوا أشدَّ العذاب، فَنَصَبه على النداء المضاف‏.‏ ويقرأ «أَدْخِلوا» على الأمر‏.‏

‏{‏أَشَدَّ الْعَذَابِ‏}‏‏:‏ أي أصعبهُ، وأصعبُ عذابٍ للكفار في النار يأسُهم من الخروج عنها‏.‏ أمَّا العصاةُ من المؤمنين فأشدُّ عذابهم في النار إذا علموا أن هذا يومُ لقاء المؤمنين، فإذا عرفوا ذلك فذلك اليومُ أشدُّ أيام عذابهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 48‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ ‏(‏47‏)‏ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ‏(‏48‏)‏‏}‏

يقول الضعفاء للذين استكبروا‏:‏ أنتم أضللتمونا، ويقول لهم المستكبرون‏:‏ أنتم وافقتمونا باختياركم؛ فمحاجةُ بعضهم لبعضٍ تزيد في غيظ قلوبهم، فكما يُعَذَّبون بنفوسهم يعذبون بضِيقِ صدورهم وببُغْضِ بعضهم لبعض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ‏(‏49‏)‏ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏50‏)‏‏}‏

وهذه أيضاً من أمارات الأجنبية، فهم يُدْخِلُونَ واسطةً بينهم وبين ربِّهم‏.‏ ثم إن الله ينزع الرحمةعن قلوب الملائكة كي لا يستشفعوا لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ‏(‏51‏)‏‏}‏

ننصرهم بالآياتِ وفنونِ التعريفات حتى يعرفوا ويشهدوا ان الظَّفَرَ وضِدَّه من الله، والخيرَ والشرَّ من الله‏.‏

ويقال ننصرهم على أعدائهم بكيدٍ خفيٍّ ولطفٍ غيرِ مرئيٍّ، من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون؛ ننصرهم في الدنيا بالمعرفة وباليقين بأنَّ الكائنات من الله، وننصرهم في الآخرة بأن يشهدوا ذلك، ويعرفوا- بالاضطرار- أنَّ التأثيرَ من الله، وغاية النصرة أن يَقْتُلَ الناصرُ عدوَّ مَنْ ينصره، فإذا أراد حَتْفَه تحقَّق بأن لا عَدُوَّ على الحقيقة، وأنَّ الخَلْقَ أشباحٌ تجري عليهم أحكامُ القدرة؛ فالوليُّ لا عدوَّ له، ولا صديق له إلاّ الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ وَلِىَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

دليلُ الخطابِ أن المؤمنين ينفعهم تَنَصُّلُهم، ولهم من الله الرحمة، ولهم حُسْنُ الدار، وما بقي من هذه الدنيا إلا اليسير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 54‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ‏(‏53‏)‏ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏54‏)‏‏}‏

مضى طَرَفٌ من البيان في قصة موسى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ‏(‏55‏)‏‏}‏

الصبرُ في انتظار الموعود من الحقِّ على حسب الإيمان والتصديق؛ فَمَنْ كان تصديقهُ ويقينُه أتمَّ وأقوى كان صبرُه أتم وأوفى‏.‏

‏{‏إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ‏}‏‏:‏ وهو- سبحانه- يُعْطِي وإن توَهَّمَ العبدُ أنه يُبْطِي‏.‏

ويقال الصبر على قسمين‏:‏ صبرٌ على العافية، وصبرٌ على البلاء، والصبرُ على العافية أشدُّ من الصبر على البلاء، فصبرُ الرجال على العافية وهو أتمُّ الصبر‏.‏

‏{‏وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ‏}‏‏.‏ وفي هذا دليل على أنه كانت له ذنوب، ولم يكن جميعُ استغفاره لأمته لأنه قال في موضع آخر‏:‏ ‏{‏وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 19‏]‏ وهنا لم يذكر ذلك‏.‏ ويمكن حَمْلُ الذَّنْبِ على ما كان قبل النبوة؛ إذ يجوز أن يكون العبد قد تاب من الزَّلَّة ثم يجب عليه الاستغفار منها كلما ذكرها، فإن تجديد التوبة يجب كما يجب أصلُ التوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏بَغْيْرِ سُلْطَانٍ‏}‏‏:‏ أي بغير حجة‏.‏

‏{‏إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ‏}‏ أي ليس في صدورهم إلا كِبْرٌ يمنعهم عن الانقياد للحق، ويبقون به عن الله، ولا يصلون إلى مرادهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

أي خَلْقُ السموات والأرضِ أكبرُ من بعثهم وخَلْقهم مرةً أخرى بعد أن صاروا رميماً؛ فالقوم كانوا يُقِرُّون بخلْقِ السموات والأرض، وينكرون أمرَ البعث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

أراد به‏:‏ ما يستوي المؤمنُ والكافرٌُ، ولا المربوطُ بشهوته كالمبسوط بصفوته، ولا المجذوبُ بقربته كالمحجوب بعقوبته، ولا المُرَقّي إلى مشاهدته كالمُبقّي في شاهده، ولا المجدود بسعادته كالمردود لشقاوته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

أنَّ ميقاتَ الحسابِ لكانٌ وإن وقعت المدةُ في أوانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

معناه‏:‏ أدعوني اأستجب لكم إن شِئتُ؛ لأنه قال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَآءَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 41‏]‏‏.‏

ويقال ادعوني بشرطِ الدعاء، وشرطُ الدعاء الأكلُ من الحلال؛ إذا يقال الدعاء مفتاحُه الحاجة، وأسبابُهُ اللقمةُ الحلال‏.‏

ويقال كلُّ مَنْ دعاه استجاب له إمّا بما يشاء له‏.‏ أوبشيء آخر هو خيرُ له منه‏.‏

ويقال الكافر ليس يدعوه؛ لأنه إنما يدعو مَنْ له شريك، وهو لا شريكَ له‏.‏

ويقال‏:‏ إذا ثبت أن هذا الخطاب للمؤمنين فيما مِنْ مؤمنٍ يدعو الله ويسأله شيئاً إلا أعطاه في الدنيا، فأما في الآخر ة فيقول له‏:‏ هذا ما طلبْتَه في الدنيا، وقد ادْخرتُه لك لهذا اليوم حتى ليتمنى العبدُ أنه ليته لم يُعطَ شيئاً في الدنيا قط‏.‏

ويقال‏:‏ ادعوني بالطاعات استَجبْ لكم بالثواب والدرجات‏.‏

ويقال ادعوني بلا غفلة أستجب لكم بلا مهلة‏.‏ ويقال ادعوني بالتنصل أستجب لكم بالتفضُّل‏.‏ ويقال ادعوني بحسَبِ الطاقة أستجب لكم بكشف الفاقة‏.‏

ويقال ادعوني بالسؤال أستجب لكم بالنّوال والأفضال‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عِنْ عِبَادَتِى‏}‏ أن يستكبرون عن دعائي، سيدخلون جهنم صاغرين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 62‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏61‏)‏ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً‏}‏‏.‏

سكونُ الناسِ في الليل على أقسام‏:‏ أهلُ الغفلة يسكنون إلى غفلتهم، واهل المحبة يسكنون بحكم وصلتهم، وشتّان بين سكونِ غفلةٍ وسكونِ وصلة‏!‏

قومُ يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم، وقومٌ يسكنون إلى حلاوة أعمالهم؛ لبسطهم واستقلالهم، وقومٌ يعدِمون القرار في ليلهم ونهارهم وأولئك اصحابُ الاشتياق *** إبداً في الاحتراق‏.‏

‏{‏ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ‏}‏ الذي جعل سكونكم معه، وانزعاجكم له، واشتياقكم إليه، ومحبتكم فيه، وانقطاعكم إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً والسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوًَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ‏}‏‏.‏

‏{‏وَصَوًّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ‏}‏‏:‏ خَلقَ العرشَ والكرسيّ والسموات والأرضين وجميعَ المخلوقاتِ ولم يقُلْ هذا الخطاب، وإنما قال لنا‏:‏ ‏{‏وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ‏}‏ وليس الحَسَنُ ما يستحسنه الناسُ بل الحَسنُ ما يستحسنه الحبيبُ‏:‏

ما حطك الواشون عن رتبةٍ *** عندي ولا ضَرَّك مُعتابُ

كانهم أَثْتنَوْا-ولم يعلما- *** عليكَ عندي بالذي عابوا

لم يَقُلْ للشموس في علائها، ولا للأقمار في ضيائها‏:‏ ‏{‏وَصَوَّرَكُمْ فََأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ‏}‏‏.‏

ولما انتهى إلينا قال ذلك، وقال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 4‏]‏‏.‏

ويقال إن الواشين قَبَّحوا صورتكم عندنا، بل الملائكةُ كتبوا في صحائفكم قبيحَ ما ارتكبتم‏.‏‏.‏ ومولاكم أحسن صوركم، بأن محا من ديوانكم الزّلاّت، وأثبت بدلاً منها الحسنات، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 39‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 70‏]‏‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ‏}‏‏.‏

ليس الطيبُ ما تستطيبه النفْسُ إنما الطيب ما يستطيبُه القلبُ، فالخبزُ القفار أطيب للفقير الشكر من الحلواء للغنيِّ المتَسَخِّط‏.‏

ورِزْقُ النفوسِ الطعامُ والشرابُ، ورزقُ القلوبِ لذاذات الطاعات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الْحَىُّ‏}‏‏:‏ الذى لا يموت، ولا فضلُه يفوت، فادعوه بلسان القوت، وذلك عليه لا يفوت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

قُلْ- يا محمد- إني نهيت عن عادة ما تدعون من دون الله، أي أُمِرْتُ بالتبرِّي عمَّا عبدتم، والإعراض عمّا به اشتغلتم، والاستسلام للذي خلقني، وبالنبوة استخصّني‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَِّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً‏}‏‏.‏

فمن تُربْةٍ إلى قطْرَةٍ؛ ومن قطرةٍ إلى عَلَقَةٍ‏.‏‏.‏ ثم من بطون أُمهاتكم إلى ظهوركم في دنياكم‏.‏‏.‏ ثم من حال كونكم طفلاً ثم شاباً ثم شيخاً‏.‏

وهو الذي يحيي ويميت، ثم يبعث في أُخرى الدارين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

في آيات الله يتبلّدُون؛ فلا حُجة يوردُون، ولا عذاب عن أنفسهم يرُدُّون، سيعلمون حين لا ينفعهم عِلمُهم، ويعتذرون حين لا يُسمَع عُذْرُهم، وذلك عندما

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 72‏]‏

‏{‏إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ ‏(‏71‏)‏ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

يُسحبُون في النار والأغلالُ في أعناقهم، ثم يُذَاقُون ألوان العذاب‏.‏ فإذا أُقرُّوا بكفرهم وذنوبهم يقال لهم‏:‏ أدخلوا جهنم خالدين فيها، فبئس مثواهم ومصيرهم، وساء ذهابُهم ومسيرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 78‏]‏

‏{‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ‏(‏77‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ‏}‏‏.‏

كُنْ بِقلبكَ فارغاً عنهم، وانظر من بعدُ إلى ما يُفعلُ بهم، واستيقن بأنه لا بقاء لجولة باطلهم‏.‏‏.‏ فإن لقيت بعض ما نتوعدُهم به وإلاّ فلا تكُ في ريبٍ من مقاساتهم ذلك بَعْدُ‏.‏ ثم أكَّدَ تسليتَه إياه وتجديدَ تصبيره وتعريفه بقوله‏:‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ‏}‏‏.‏

قصصنا عليك قصصَ بعضهم، ولم نخبرك عن قصص آلاخرين‏.‏

ولم يكن في وسع أحدٍ الإتيان بمعجزة إلا إذا أظهرنا نحن عليه ما أردنا إذا ما أردنا‏.‏ فكذلك إن طالبُوك بآيةٍ فقد أظهرنا عليك من الآيات ما أزحنا به العُذْرُ، ووضحنا صِحّةً الأمر‏.‏‏.‏ وما اقترحُوه‏.‏‏.‏ فإن شئنا أظْهَرنا، وإن شِئنا تَرَكنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 81‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏79‏)‏ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ‏(‏80‏)‏ وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

ذكّرهم عظيمَ إنعامه بتسخير الأنعام؛ فقال جعلها لكم لتنتفعوا بها بالركوب والحمل والعمل، ولتستقوا ألبانها، ولتأكلوا لحومها وشحومَها، ولتنتفعوا بأصوافها وأوبارها وأشعارها، ولتقطعوا مسافة بعيدةً عليها‏.‏‏.‏ فعلى الأنعام وفي الفُلْكِ تنتقلون من صقْعٍ إلى صُقعٍ‏.‏‏.‏ وأنالذي يَسَّرْتُ لكم هذا، وأنا الذي ألهمتكم الانتفَاع به؛ فثقُوا في ذلك واعرفوه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

أمَرَهم بالاعتبار بِمَنْ كانُوا قبلهُمْ؛ كانوا أشدّ قوةً وأكثر أموالاً وأطولَ أعماراً، فانجرُّوا في حِبَالِ آمالهم، فوقعوا في وهْدَة غرورهم، وما في الحقُّ عن مراده فيهم، واغتروا بسلامتهم في مُدّةِ ما أرخينا لهم عنان آمالهم، ثم فاجأناهُم بالعقوبة، فلم يُعْجِزُوا الله في مُرادِه منهم‏.‏

فلمَّا رأوا شِدَّةَ البأسِ، ووقعوا مذلّةِ الخيبة واليأس تمنّوا أن لو أُعيدُوا إلى الدنيا من الرأس‏.‏‏.‏ فقابلهم الله بالخيبة؛ وخرطهم في سِلكِ مَن أبادهم من أهل الشِّرْكِ والسّخْطِ‏.‏

سورة فصلت

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

بحقي وحياتي، ومجدي في صفاتي وذاتي‏.‏‏.‏ هذا تنزيلٌ من الرحمن الرحيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

بُيِّنَتْ آياتُه ودلالاتُه‏.‏

‏{‏وقُرْءَاناً عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏‏:‏ الدليل منصوبٌ للكافة ولكنَّ الاستبصار به للعالِمين-دون المُعْرِضين الجاحدين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏بَشِيراً‏}‏‏:‏ لِمَنْ اخترناهم واصطفيناهم‏.‏

‏{‏وَنَذِيراً‏}‏‏:‏ لِمَنْ أقميناهم، وعن شهودِ آياتنا أعميناهم‏.‏

‏{‏فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ‏}‏ عند دعائنا إياهم، فهم مُثْبَتُون فيما أردناهم، وعلى ذلك ‏(‏الوصف‏)‏ عَلِمْناهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قالوا ذلك على الاستهانة والاستهزاء، ولو قالوه عن بصيرةٍ لكان ذلك منهم توحيداً، فمُنُوا بالمَقْتِ لِما فقدوا من تحقيق القلب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ‏(‏6‏)‏ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

إنما أنا بَشَرٌ مثلكم في الصورة والبِنْية، والذات والخِلقة‏.‏ والفرقَانُ بيني وبينكم أنَّه يُوحَى إليَّ أنما إلهكم إله واحد؛ فالخصوصية مِنْ قِبَلِه لا مِنْ قِبَلِي، ولقد بَقِيتُ فيكم عمراً، ولقيتموني جهراً‏.‏‏.‏ فما عثرتم مني على غير صواب، ولا وجدتم في قولي شوب كذاب‏.‏ وأمري إليكم أن استقيموا في طاعته، واستسلموا لأمره *** وطوبى لِمَن أجاب، والويلُ لِمَنْ أصرَّ وعاب‏!‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏ءَامِناً‏}‏‏:‏ شاهدوا، ‏{‏وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ‏}‏‏:‏ لازموا بِساط العبودية‏.‏

‏{‏ءَامَنُواْ‏}‏‏:‏ شهدوا الحضرة، ‏{‏وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ‏}‏‏:‏ وقفوا بالباب‏.‏

‏{‏ءَامَنُواْ‏}‏‏:‏ حضروا، ‏{‏وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ‏}‏‏:‏ بعد ما حضروا لم ينصرفوا‏.‏

‏{‏لَهُمْ أَجرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏‏:‏ غير منقوص؛ فأجرُ النفوسِ الجنةُ، وأجرُ القلوب الرضا بالله، وأجرُ الأرواح الاستئناسُ بالله، وأجرُ الأسرار دوام المشاهدة لله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

خَلَقَ الزمانَ ولم يكن قبله زمان، وخَلَقَ المكان، ولم يكن قبله مكان؛ فالحقُّ-سبحانه- كان ولا مكان ولا زمان، فهو عزيزٌ لايُدْرِكُه المكانُ، ولا يَمْلِكُه الزمان‏.‏

‏{‏وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً‏}‏ *** وكيف يكون الذي لم يكن ثم حصل نِدًّا للذي لم يَزَلْ *** ولا يزال كما لم يزل‏؟‏‏!‏ ذلك ربُّ العالمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

الجبالُ أوتادُ الأرضِ في الصورة، والأولياءُ أوتادٌ ورواسٍ للأرض في الحقيقة‏.‏

‏{‏وَبَارَكَ فِيهَا‏}‏‏:‏ البركةُ الزيادة‏.‏‏.‏ فيأتيهم المطرُ ببركاتِ الأولياء، ويندفع عنهم البلاء ببركات الأولياء‏.‏

‏{‏وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا‏}‏‏:‏ وجعلها مختلفةً في الطَّعْمِ والصورةِ والمقدار‏.‏ وأرزاقُ القلوبِ والسرائر كما مضى ذكره فيما تقدم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏اسْتَوَى‏}‏ أي قَصَدَ، وقيل فعل فعلاً هو الذي يعلم تعيينه‏.‏

ويقال رتَّبَ أقطارها، وركَّبَ فيها نجومَها وأزهارَها‏.‏

‏{‏فَقَالَ لَهَا وَللأرْضِ ائْتِنَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ‏}‏‏:‏ هذا على ضرب المَثَل؛ أي لا يتعسَّر عليه شيءٌ مما خلقه، فله مِنْ خَلْقِه ما أراده‏.‏ وقيل بل أحياهما وأعقلهما وأنطقهما فقالتا ذلك‏.‏ وجعل نفوسَ العابدين أرضاً لطاعته وعبادته، وجعل قلوبهم فَلكاً لنجومِ علمه وشموسِ معرفته‏.‏

وأوتادُ النفوسِ الخوفُ والرجاءُ، والرغبةُ والرهبة‏.‏ وفي القلوب ضياءُ العرفانِ، وشموس التوحيد، ونجوم العلوم والعقولِ والنفوسِ‏.‏ والقلوبُ بيده يُصَرِّفُها على ما أراد من أحكامه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏12‏)‏‏}‏

زَيَّنَ السماء الدنيا بمصابيح، وزيَّنَ وجهَ الأرضِ بمصابيحَ هي قلوب الأحباب؛ فأهلُ السماء إذا نظروا إلى قلوب الأولياء بالليل فذلك متنزههم كما أن أهل الأرض إذا نظروا إلى السماء استأنسوا برؤية الكواكب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

أي أخْبِرْ المُكَذِّبين لَكَ أنَّ لكم سَلَفاً‏.‏‏.‏ فإن سلكتم طريقهم في العناد، وأبيتم إلاَّ الإصرار ألحقناكم بأمثالكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

ركنوا إلى قوة نفوسهم فخانتهم قواهم، واستمكنت منهم بلواهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

فلم يغادر منهم أحداً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏17‏)‏ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قيل إنهم في الابتداء آمنوا وصدَّقوا، ثم ارتدُّوا وكذَّبوا، فأجراهم مجرى إخوانهم في الاستئصال‏.‏

‏{‏وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ‏}‏‏:‏ منهم من نجَّاهم من غير أن رأوا الناس؛ فعبروا القنطرة ولم يعلموا، وقومٌ كالبرق الخاطف وهم أعلاهم، وقومٌ كالراكض‏.‏‏.‏ وهم أيضاً من الأكابر، وقومٌ على الصراط يسقطون ويردُّهم الملائكة على الصراط‏.‏ فبعد وبعد‏.‏‏.‏ قومٌ بعدما دخلوا النار فمنهم من تأخذه إلى كعبيه ثم إلى ركبتيه ثم إلى حَقْوَيه، فإذا ما بلغت النار القلب قال الحقُّ لها‏:‏ لا تحرقي قلبه؛ فإنه محترقٌ فيَّ‏.‏ وقومٌ يخرجون من النار بعدما امْتُحِشوا فصاروا حُمَماً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 23‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏19‏)‏ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏20‏)‏ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏22‏)‏ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

شهدت عليهم أجزاؤهم، ولم يكن في حسابهم أن الله سيُنْطِقها وهو الذي أنطق كلَّ شيء، ولم يَدُرْ بخَلدهم ما استقبهم من المصير الأليم‏.‏

‏{‏ذلكم ظنكم‏}‏‏:‏ وكذا مَنْ قعد في وصف الأقوال، ووَسَمَ موضِعَه، وحَكَمَ لنفسه انه مُقَدَّمُ بلده‏.‏ فلا يُسْمَعُ منه إلا ببرهانٍ ودليلٍ من حاله، فإن خالف الحالُ قولَه فلا يُعتمد عليه بعد ذلك‏.‏

والظنُّ بالله إذا كان جميلاً فلعمري يُقَابَلُ بالتحقيق، أمَّا إذا كان نتيجةَ الغرورِ وغيرَ مأذونِ به في الشرع فإنه يُرْدِي صاحبه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

فإن يصبروا على موضع الخسف فسينقلبون إلى النار، وإن يستعتبوا-فعلى ما قال- فما هم بمعتبين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

إذا أراد الله بعَبْدٍ خيراً قَيَّضَ له قرناءَ خير يُعِينونه على الطاعات، ويَحْمِلونه عليها، ويدعونه إليها‏.‏ وإذا كانوا إخوانَ سوءٍ حملوه على المخالفات، ودَعَوْه إليها *** ومن ذلك الشيطانُ؛ فأنهُ مُقَيَّضٌ مُسَلَّطٌ على الإنسان يوسوس إليه بالمخالفات‏.‏ وشرٌّ من ذلك النَّفْسُ‏.‏ فإنها بئس القرين‏!‏‏!‏ فهي تدعو العبدَ-اليومَ- إلى ما فيه هلاكه، وتشهد عيه غداً بفعل الزلَّة‏.‏ فالنفسُ- وشرُّ قرينٍ للمرءِ نفسهُ- والشياطينُ وشياطينُ الإنْسِ‏.‏‏.‏ كلها تُزيِّن لهم ‏{‏مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ من طول الأمل، ‏{‏وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ من نسيان الزَّلَلِ، والتسويف في التوبة، والتقصير في الطاعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

استولى على قلوبهم الجَحْدُ والإنكارُ، ودام على العداوة فيهم الإصرارُ؛ فاحتالوا بكل وجهٍ، وتواصَوْا فيما بينهم بألا يستمعوا لهذا القرآن لأنه يغلب القلوب، ويسلب العقول، وكل مَنْ استمع إليه صَبَا إليه‏.‏

وقالوا‏:‏ إذا أَخّذَ محمدٌ في القرآن فأَكْثِرُوا عند قراءته اللَّغوَ واللغطَ حتى يقع في السهو الغَلَط‏.‏

ولم يعلموا أن الذي نُوِّرَ قلبُه بالإيمان، وأُيِّدَ بالفهم، وأُمِّدَ بالنصرة، وكوشف بسماع السِّرِّ من الغيب هو الذي يسمع ويؤمن‏.‏ والذي هو في ظلمات جهله لا يدخل الإيمانُ قلبَه، ولا يباشر السماعُ سِرَّه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

اليومَ بإدامة الحرمان الذي هو الفراق، وغداً بالتخليد في النار التي هي الاحتراق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

لهم فيها الخزي والهوان بلا انقطاع ولا انصرام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

من الجنِّ إبليس‏.‏ ومن الإنس قابيل من آدم فهو أول منْ سَنَّ المعصية ‏(‏حين قتل أخاه‏)‏‏.‏

‏{‏نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا‏}‏؛ هذه الإرادة وهذا التمني زيادة في عقوبتهم أيضاً؛ لأنهم يتأذون بتلك الإرادة وهذا التمني؛ فهم يجدون أنه لا نَفْعَ لهم من ذلك إذ لن يُجَبوا في شيء، ولن يُمْنَعَ عنهم العذاب‏.‏

ويفيد هذا الإخبار عنهم عن وقوع التبَرِّي فيما بينهم، فبعضهم يتبرأ من بعض، كما يفيد بأن الندمَ في غير وقته لا جدوى منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

«ثم» استقاموا‏:‏ ثم حرف يقتضي التراخي، فهو لا يدل على انهم في الحال لا يكونون مستقيمين، ولكنه معناه استقاموا في الحال، ثم استقاموا في المآل بأن استداموا إيمانَهم إلى وقت خروجهم من الدنيا، وهو آخرُ أحوالِ كونِهم مُكَلَّفين‏.‏

ويقال‏:‏ قالوا بشرط الاستجابة أولاً، ثم استبصروا بموجب الحجة، ولم يثبتوا على وصف التقليد، ولم يكتفوا بالقالة دون صفاء الحالة‏.‏

«استقاموا»‏:‏ الاستقامة هي الثباتُ على شرائط الإيمان بجملتها من غير إخلالٍ بشيءٍ من أقسامها‏.‏ ويقال‏:‏ هم على قسمين‏.‏

مستقيم ‏(‏في أصول‏)‏ التوحيد والمعرفة‏.‏‏.‏ وهذه صفة جميع المؤمنين‏.‏

ومستقيم في الفروع من غير عصيان‏.‏‏.‏ وهؤلاء مختلفون؛ فمنهم‏.‏‏.‏ ومنهم، ومنهم‏.‏

‏{‏وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ‏}‏‏:‏ الذي لهم البشارة هم كل من استقام في التوحيد، ولم يشرك‏.‏ فله الأمان من الخلود‏.‏ ويقال‏:‏ مَنْ كان له أصل الاستقامة أَمِنَ من الخلود في النار، ومن كمال الاستقامة أَمِنَ من الوعيد من غير أن يلحقه سوءٌ بحالٍ‏.‏‏.‏ ثم الاستقامة لهم على حسب أحوالهم؛ فمستقيمٌ في عهده، ومستقيم في عقده، ومستقيم في جهده ومراعاة حدِّه، ومستقيم في عقده وجهده حدِّه وحبِّه‏.‏ وودِّه‏.‏‏.‏ وهذا أتمُّهم‏.‏

ويقال‏:‏ استقاموا على دوام الشهود وعلى انفراد القلب بالله‏.‏

ويقال‏:‏ استقاموا في تصفية العقد ثم في توفية العهد ثم صحة القصد بدوام الوجد‏.‏

ويقال‏:‏ استقاموا بأقوالهم ثم بأعمالهم، ثم بصفاء أحوالهم في وقتهم وفي مآلهم‏.‏

ويقال‏:‏ أقاموا على طاعته، واستقاموا في معرفته، وهاموا في محتبه، وقاموا بشرائط خدمته‏.‏

ويقال‏:‏ استقامةٌ الزاهدِ ألا يرجعَ إلى الدنيا، وألا يمنعَه الجاهُ بين الناس عن الله‏.‏ واستقامةُ العارفِ ألا يشوبَ معرفتَه حظٌّ في الداريْن فيحجبه عن مولاه‏.‏ واستقامةُ العابدَ ألا يعودَ إلى فترته واتباع شهوته، ولا يتداخله رياءٌ وتصنُّع واستقامة المُحِبِّ ألا يكون له أرَبٌ من محبوبه، بل يكتفي من عطائه ببقائه، ومن مقتضى جوده بدوام عِزِّه ووجوده‏.‏

‏{‏أَلاَ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُواْ‏}‏‏:‏ إنما يكون الخوف في المستقل من الوقت، ومن حلولِ مكروهِ أو فوات محبوبٍ فالملاكةُ يبشرونهم بأن كل مطلوبٍ لهم سيكون، وكل محذورٍ لهم لا يكون‏.‏

والحزن من حُزُونه الوقت، ومن كان راضياً بما يجري فلا حزنَ له في عيشه‏.‏ والملائكة يبشرونهم بأنهم لا حزنه في أحوالهم، وإنما هم الرَّوْح والراحة‏.‏

‏{‏وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ‏}‏‏:‏ أي بحسن المآب، وبما وَعَدَ اللَّهُ من جميل الثواب‏.‏

والذي هو موعودٌ للأولياء بسفارة الملَكِ موجودٌ اليومَ لخواصٌ عباده بعطاء المَلِكِ؛ فلا يكون لأحدهم مطالعةٌ في المستقبل من حاله بل يكون بحكم الوقت؛ فلا يكون له خوفٌ؛ لأن الخوف-كما قلنا من قبل- ينشأ من تطلع إلى المستقبل إمَّا من زوالِ محبوبٍ أو حصولِ مكروه، وإن الذي بصفة الرضا لا حزونة في حاله ووقته‏.‏

ويمكن القول‏:‏ ‏{‏لا تخافوا‏}‏ من العذاب، ‏{‏ولا تحزنوا‏}‏ على ماخلفتم من الأسباب، ‏{‏وأبشروا‏}‏ بحسن الثواب في المآب‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏لا تخافوا‏}‏ من عزل الولاية، ‏{‏ولا تحزنوا‏}‏ على ما أسلفتم من الجناية، «وأبشروا» بحسن العناية في البداية‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏لا تخافوا‏}‏ مما أسلفتم، ‏{‏ولا تحزنوا‏}‏ على ما خلفتم، ‏{‏وأبشروا‏}‏ بالجنة التي لها تكلفتم‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏لا تخافوا‏}‏ المذلَّة، ‏{‏ولا تحزنوا‏}‏ على ما أسلفتم من الزلَّة، ‏{‏وأبشروا‏}‏ بدوام الوصلة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ‏(‏31‏)‏ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

الولاية من الله بمعنى المحبة، وتكون بمعنى النصرة‏.‏

وهذا الخطاب يحتمل أن يكون من قِبَلِ الملائكة الذين تنزلوا عيلهم، ويحتمل أن يكون ابتداءَ خطابِ من الله‏.‏

والنصرة تصدر من المحبة؛ فلو لم تكن المحبة الأزلية لم تحصل النصرة في الحال‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ بتحقيق المعرفة، ‏{‏وَفِى الأَخِرَةِ‏}‏ بتحصيل المغفرة‏.‏

ويقال ‏{‏نَحْنُ أَوْليَآؤُكُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ بالعناية، ‏{‏وَفِى الأَخِرَةِ‏}‏ بحسن الكفاية وجميل الرعاية‏.‏

‏{‏وفِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ بالمشاهدة، ‏{‏وَفِى الأَخِرَةِ‏}‏ بالمعاينة‏.‏

في الدنيا الرضاء بالقضاء، وفي الأخرة باللقاء في دار البقاء‏.‏

في الدنيا بالإيمان، وفي الآخرة بالغفران‏.‏

في الدنيا بالمحبة، وفي الآخرة بالقربة‏.‏

‏{‏وَلَكُمْ فِيهَا‏}‏ أي في الجنة ‏{‏مَا تَشْتَهِى أَنْفُسُكُمْ‏}‏‏:‏ الولايةُ نقدٌ، وتحصيل الشهوات وعدٌ، فَمَنْ يشتغل بنقده قلَّما يشتغل بوعده‏.‏

‏{‏وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ‏}‏‏:‏ أي ما تريدون، وتدعون الله ليُعطيَكم‏.‏

‏{‏نُزُلاً‏}‏‏:‏ أي فضلاً وعطاءً، وتقدمةً لما يستديم إلى الأبد من فنون الأفضال ووجوه المبارِّ‏.‏

‏{‏مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ‏}‏‏:‏ وفي ذلك مساغٌ لآمال المذنبين؛ لأنهم هم الذين يحتاجون إلى المغفرة، ولولا رحمته لما وصلوا إلى مغفرته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

أي لا أحدَ أحسنُ قولاً منه، ويكون المراد منه النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون جميع الأنبياء عليهم السلام‏.‏

ويقال هم المؤمنون‏.‏ ويقال هم الأئمة الذين يدعون الناس إلى الله‏.‏

وقيل هم المؤذنون‏.‏ ويقال الداعي إلى الله هو الذي يدعو الناس إلى الاكتفاءِ بالله وتَرْكِ طالب العِوَض من الله، ويَكِلُ أمره إلى الله، ويرضى من الله بقسمة الله‏.‏

‏{‏وَعَمِلَ صَالِحًا‏}‏‏:‏ أي كما يدعو الخَلْقَ إلى الله يأتي بما يدعوهم إليه‏.‏

ويقال هم الذين عرفوا طريقَ الله، ثم سلكوا طريقَ الله، ثم دعوا الناسَ إلى الله‏.‏

ويقال بل سلكوا طريق الله؛ فبسلوكهم وبمنازلاتهم عرفوا الطريق إلى الله‏.‏ ثم دعوا الخَلْقَ إليه بعد ما عرفوا الطريق إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

ادفعْ بالخصلة التي هي أحسن السيئةَ يعني بالعفو عن المكافأة، وبالتجاوز والصفح عن الزلة، وترك الانتصاف‏.‏

‏{‏فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ‏}‏ يُشْبِه الوليَّ الحميمَ- ولم يَصِرْ ولياً مخلصاً *** وهذا من جملة حُسْنِ الأدب في الخدمة في حقِّ صحبتك مع الله؛ تحلم مع عباده لأَجْلِه‏.‏

ومن جملة حُسْن الخُلُق في الصحبة مع الخَلْقِ ألا تنتقم لنفسك، وأَنْ تعفوَعن خصمك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ‏(‏35‏)‏‏}‏

لا يقوم بحق هذه الأخلاق إلاّ مَنْ أُكْرِم بتوفيق الصبر، ورُقِّي عن سفساف الشيم إلى معالي الأخلاق‏.‏ ولا يصل أحسنَ الدرجاتِ إلا مَنْ صبر على مقاساة الشدائد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏36‏)‏‏}‏

إذا اتصلَتْ بقلبك نزغاتُ الشيطان فبادِرْ بذكر ربِّك، وارجعْ إليه قبل أية خطوة‏.‏‏.‏ فإنك إن لم تخالف أولَ هاجسٍ من هواجس الشيطان صار فكرة، ثم بعد ذلك يحصل العزم على ما يدعو إليه الشيطان‏.‏‏.‏ فإذا لم تتداركْ ذلك تجري الزلَّة، وإذا لم تتداركْ ذلك بحُسْنِ الرُّجعي صار فسقاً *** وبتمادي الوقت تصبح في خَطَرِ كل آفة‏.‏

ولا يتخلص البعدُ من نزغات الشيطان إلا بصدق الاستعانة وصدق الاستغاثة وبذلك ينجو من الشيطان، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 65‏]‏؛ فكلما ازداد العبدُ في تبرِّيه من حَوْلِه وقوته، وأخلص بينْ يدي الله بتضرعه واستعانته واستعاذته زاد اللَّهُ في حِفْظه، ودَفَع الشيطان عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

أَوْضَحَ الآياتِ، وأَلاحَ البينَاتِ، وأَزاحَ عِلَّةَ مَنْ رام الوصول‏.‏ واختلاَفُ الليل والنهار، ودورانُ الشمسِ والقمر من جملة أمارات قدرته، ودلالات توحيده‏.‏

‏{‏لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ‏}‏ في علائها، ‏{‏وَلاَ لِلْقَمَرِ‏}‏ في ضيائه، ‏{‏وَاسْجُدُواْ لِلَّهِ‏}‏ فقد غار عليك أن تسجد لغيره‏.‏

والشمسُ- وإِنْ عَلَتْ، والقمر- وإنْ حَسُنُ *** فلأجْلِكَ خلقناهما، فلا تسجدْ لهما، واسجُدْ لنَا‏.‏

ويقال‏:‏ خَلقَ الملائكة-ومع كثرة عبادتهم، ومع تقدمهم في الطاعة- قال لهم‏:‏ اسجدوا لآدم، وحين امتنع واحدٌ منهم لُعِنَ إلى الأبد‏.‏ وقال لأولاد آدم العصاةِ المذنبين‏:‏ ‏{‏لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ‏}‏ فشتِّان ما هما‏!‏‏!‏‏.‏

والحقُّ-سبحانه وتعالى- يأمرك بصيانة وجهك عن الشمس والقمر‏.‏‏.‏ وأنت لأجْلٍ كلِّ حظِّ خَسِيسٍ تنقل قَدَمَكَ إلى كلِّ أحدٍ؛ وتدخل بمحياك عَلَى كلِّ أحدٍ‏!‏‏!‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

أي إنْ تَرَفّعَ الكفارُ فلا خَلَلَ؛ لأن الحقَّ غنيٌّ عن كل أحد، ثم إن الملائكة- الذين هم سكان الآخرَ- يسجدون له بالليل والنهار، وهم لا يسأَمون من عبادته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

الأرضُ تكون جَدْبةً يابسةً في الشتاء، فإذانزل عليهما المطر اهتزت بالنبات واخضرّت وكذلك القلوب إذا خشعت لاستشعارها بما ألمَّتْ به من الذنوب أقبل عليها الحق سبحانه، فظهر فيها بركاتُ الندم، وعفا عن أربابها ما قصرُّوا في صِدْق القدَم؛ وكذلك وقعت للعبد قترةٌ في معاملاته- أو غيبةٌ عن بساط طاعاته، ثم تغمَّده الحقُّ- سبحانه- بما يدخل عليه من التذكر تظهر في القلب أنوارُ الوفاق، فيعود إلى مألوف مقامه، ويرجع عود سداده غضَّا طرياً، ويصير شجر وفاقه- بعد ما أصابته الجدوبة- بماء العناية مستقياً‏.‏

وكذلك إذا بدت لأهل العرفان وقفة، أو حدثت لهم من جرَّاء سوء أدبٍ بَدَرَ منهم حجبةٌ ثم نظر الحقِّ- سبحانه- إليهم بالرعاية‏.‏‏.‏ اهتزّت رياضُ أُنْسِهم، واخضرَّت مشاهدُ قربهم، وانهزمت وفودُ وقفتهم‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏‏:‏ إن الذي أحيا الأرضَ بعد موتها قادرٌ على إحياء النفوس بالحشر والنشر‏.‏ وكذلك هو قادر على إحياء القلوب بنور العناية بعد الفترة والحجبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

سيلقون من العذاب ما يستوجبونه‏.‏‏.‏ فَلْيَعْمَلوا ما شاءوا‏.‏‏.‏ فليسوا‏.‏‏.‏ يَسْعَونْ إلاَّ في ذَمَّهم، وليسوا يمشون إلا إلى هلاكهم بأَقدامهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ‏(‏41‏)‏‏}‏

الجواب محذوف ومعناه‏:‏ بقوا عنَّا، ووقعوا في هوانهم وشقوا إلى الأبد‏.‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ‏}‏‏:‏ كتابٌ عزيزٌ لا مِثْلَ له حيث قد عجزوا عن الإتيان بمثله‏.‏ كتابٌ عزيز غالبٌ لِشُبَهِ المبتدعين والكفار‏.‏

عزيزٌ لا يقدر على معارضته أحدٌ‏.‏‏.‏ من قولهم أرض عزاز‏.‏

كتاب عزيزٌ لأنه كلامُ ربٍّ عزيز إلى رسولٍ عزيزٍ بسفارة مَلَكٍ عزيزٍ إلى أُمَّةٍ عزيزة‏.‏

كتاب عزيزٌ على المؤمنين لأنه كتابُ حبيبِهم‏.‏‏.‏ وكتابُ الحبيبِ إلى الحبيب‏.‏ عزيزٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ‏(‏42‏)‏‏}‏

أي لا ينقضه كتابٌ آخر لا مما تقدَّمه من الكتب، ولا مما يأتي من بعده‏.‏‏.‏ أي لا كتابَ بعده، ولا نسخَ له‏.‏

ويقال لا يدفع معناه لفظَه، ولا يخالف لفظُه معناه‏.‏‏.‏

ويقال لا يقدر أحدٌ أنْ يأتيَ بمثله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏43‏)‏‏}‏

أصولُ التوحيدِ لا تختلف بالشرائع؛ فجوهرُها في الأحكام واحد‏:‏ هو أنه تجب موافقة أوامره، واجتناب مزاجره‏.‏ ثم إن الله تعالى قال في كل كتابٍ، وشَرَعَ لكل أمة أَنْ يعرفوا أنه للمطيعين مُثيبٌ، وللكافرين ذو عذاب شديد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏44‏)‏‏}‏

أخبر أنه أزاح العِلَّةَ أَنْ يعرفَ صِدْقَ الدعوة، وصحة الشريعة‏.‏

ثم وصفَ الكتابَ بأنه شفاءٌ للمؤمنين، وسببُ شقاء للكافرين‏.‏

وهو شفاءٌ حيث استراحوا به عن كَدِّ الفكر وتحيُّر الخواطر‏.‏

وهو شفاءٌ لضيق صدور المريدين لما فيه من التنعم بقراءته، والتلذُّذ بالتفكُّر فيه‏.‏

وهو شفاءٌ لقلوب المحبين من لواعِج الاشتياق لما به من لُطْفِ المواجيد‏.‏

وهو شفاءٌ لقلوب العارفين بما يتوالى عليها من أنوار التحقيق، وآثار خطاب الرب العزيز‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى‏}‏‏:‏ هم لا يسمعون بقلوبهم من الحق، ولا يستجيبون‏.‏‏.‏ بقوا في ظلمات الجحد والجهل‏.‏

‏{‏وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى‏}‏‏:‏ لا يزدادون على مر الأيام إلا ضلالاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏45‏)‏‏}‏

آتينا موسى التوراةَ، وأرسلناه إلى قومه، فاختلفوا في أمره‏.‏‏.‏ فَمَنْ كَحَّلْنا سرَّه بنور التوحيد صَدَّقه، ومَنْ أعميناه عن مواقع البيان قابله بالتكذيب وجحده‏.‏

‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ‏}‏ وهي أن عقوبتَهم في النار بعد قيام القيامة لَعَجَّلنا استئصالهم، ولأذقناهم في الحال وبالَهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏46‏)‏‏}‏

«فلنفسه» لأن النفعَ عائدٌ إليه‏.‏ ومَنْ عمل عملاً سيئاً فإنما ظَلَمَ نَفْسَه، وأساء إليها؛ لأنه هو الذي يقاصي ضرَّه ويلاقي شرَّه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ‏(‏47‏)‏‏}‏

لمَّا استعجلوا وقالوا‏:‏ متى تقوم هذه القيامةُ التي يَتوعَّدنا بها‏؟‏ قال الله تعالى‏:‏ إنَّ علمَ القيامة ينفرد به الحقُّ فلا يعلم غيره، فكما لا يعلم أحدٌ ما الذي يخرج من الاشجار من الثمار، وما الذي تنطوي عليه أرحامُ النساءِ من أولادها ذكوراً وإناثاً، وما هم عليه من أوصاف الخِلْقة، ويحصل من الحيوانات من نتاجها- فلا يعلم هذه الأشياء إلا الله- فكذلك لا يعلم أحدٌ متى تقوم القيامة‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآءِى‏}‏‏:‏ يتبرؤون من شركائهم، ولكن في وقت لا تنفعهم كثرةُ نَدَمِهم وبكائهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ‏(‏49‏)‏‏}‏

لا يَمَلُّ الإنسانُ من إرادة النفع والسلامة، وإنْ مَسَّه الشرُّ فيئوسٌ لا يرجو زوالَه لِعَدَمِ علمه بربه، وانسداد الطريق على قلبه في الرجوع إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏50‏)‏‏}‏

لئن كَشَفْنا عنه البلاَءَ، وأوجبنا له الرجاء لادَّعاه استحقاقاً أو اتفاقاً، وما اعتقد أن ذلك مِنَّا فضلٌ وإيجاب‏.‏

ويقول‏:‏ لو كان حشرٌ ونشرٌ لكان لي من الله لطفٌ وخير، وغداً يعلم الأمر، وأنه بخلاف ما تَوَهَّمَ *** وذلك عندما نذيقه ما يستوجبه من عذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ‏(‏51‏)‏‏}‏

هو لا يميز بين البلاء والعطاء؛ فكثيرٌ مما يتوهمه عطاءً هو مكرٌ واستدراجٌ‏.‏‏.‏ وهو يستديمه‏.‏ وكثيرٌ مما فضلٌ وصَرْفٌ وعطاءٌ يظنه من البلاء فيعافُه ويكرهه‏.‏

ويقال إذا أنعمنا عليه صاحَبَه بالبَطَر، وإذا أبليناه قابَلَه بالضجر‏.‏

ويقال إذا أنعمنا عليه أُعُجِبَ بنفسه، وتكبَّر مختالاً في زَهْوِه، لا يشكر ربَّه، ولا يدرك فضلَه، ويتباعد عن بِساط طاعته‏.‏

والمستغني عنَّا يهيم على وجهه، وإذا مسَّه الشرُّ فذو دعاءٍ كثيرٍ، وتضرُّعٍ عريض، وابتهالٍ شديد، واستكشافٍ دائم‏.‏

ثم إذا كشفنا عنه ذلك فله إلى عُتُوِّه ونُبُوِّه عَوْدٌ، ولسوء طريقته في الجحود إعادة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 54‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏52‏)‏ سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏53‏)‏ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏سَنُرِيهِمْ‏}‏‏:‏ السن للأستقبال؛ اي سيُظهر لهم من الآيات، ومن الأحداث التي تجري في أحوال العالمَ، وما سيحِلُّ بهم من اختلاف الأمور ما يتبيَّن لهم من خلاله أنَّ هذا الدَّين حقٌّ، وأنَّ هذا الكتابَ حقٌّ، وأن محمداً- صلى الله عليه وسلم- حقٌّ، وأن المُجْرِيَ لهذه الآياتِ والأحداثِ والأمورِ والمنشئ له هو الحقُّ- سبحانه‏.‏

ومن تلك الآيات ما كان من قَهْرِ الكفار، وعُلُوِّ الإسلام، وتلاشي أعداء الدين‏.‏

ويقال من تلك الآيات في الأفاق اختلافُ أحكام الأعين مع اتفاق جواهرها في التجانس‏.‏‏.‏ وهذه آيات حدوثِ العالَم، واقتضاء المُحدَثِ لصفاته‏.‏

‏{‏وَفِى أَنفُسِهِمْ‏}‏‏:‏ من أمارات الحدوثِ واختلافِ الأوصاف ما يمكنهم إدراكه‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏فِى الأَفَاقِ‏}‏ للعلماء، ‏{‏وَفِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ لأهل المعرفة مما يجدونه من العقاب إذا أَلَمُّوا بذَنْبِ، ومن الثواب إذا أخلصوا في طاعة‏.‏

وكذلك ما يحصل لهم من اختلاف الأحوال من قبضٍ وبسط، وجمع وفَرْقٍ، وحجبٍ وجذبٍ *** وما يجدونه بالضرورة في معاملاتهم ومنازلاتهم‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ يَكْفِ بِربِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَئ شهِيدٌ‏}‏‏:‏ هو الكافي، ولكنهم- أي الكفار- في مِرْيةٍ من لقاء ربهم في القيامة‏.‏ والإشارة فيه‏:‏ أن العوامَّ لَفي شكٍ من تجويز ما يُكَاشَفُ به أهلُ الحضورِ من تعريفات السرِّ‏.‏

‏{‏أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَئ مُّحِيطُ‏}‏‏:‏ عالِمٌ لا يَخْفَى عليه شيءٌ‏.‏

سورة الشورى

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ عسق ‏(‏2‏)‏‏}‏

الحاء مفتاح اسمه‏:‏ حليم وحافظ وحكيم، والميم مفتاح اسمه‏:‏ مَلِك وماجد ومجيد ومنَّان ومؤمن ومهيمن، والعين مفتاح اسمه‏:‏ علام وعدل وعالٍ، والعين مفتاح اسمه‏:‏ سيِّد وسميع وسريع الحساب، والقاف مفتاح اسمه قادر وقاهر وقريب وقدير وقدوس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

أقسم بهذه الأسماء وهذه الحروف إنه كما أوحى إلى الذين مِنْ قَبْلِكَ كذلك يوحِي إليك العزيز الحكيم، كما أوحى إليهم العزيز الحكيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

له ما في السموات وما في الأرضِ مُلْكاً‏.‏

‏{‏وَهُوَالْعِلىُّ الْعَظِيمُ‏}‏‏:‏ عُلُوُّه وعظمتُه استحقاقُه لأصاف المجد؛ أي وجوب أن يكون بصفات المجد والجلال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

أي تكاد السموات تتشقق مِنْ عظمة مَنْ فوقهن وهو الله تعالى، والفوقيه هنا فوقية رتبة؛ وذلك من شدة هيبتهن من الله‏.‏

ويقال مِنْ ثِقَلِ الملائكةِ الذين هم فوق السموات لكثرتهم‏.‏ وفي الخبر‏:‏ «أطت السماء أطاً وحق لها أن تئط؛ ما مِنْ موضع قَدَمٍ في السموات إلا وعليه قائم أو راكع أو ساجد»‏.‏

ويقال إنه على عادة العرب إذا أخبروا عن شيء قالوا كادت السموات تنشقُّ له‏.‏‏.‏ وهنا لُقْبح قول المشركين ولجرأتهم على الله تعالى، ولعِظَم قولهم كادت السموات تنشقُّ *** قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إدّاً تَكَادُ السَّمَاواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 89-91‏]‏ وعلى هذا التأويل‏:‏ ‏{‏يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَ‏}‏ أي إلى أسفلهن، أي تتفطر جملتُها‏.‏

ومع أنَّ أولادَ آدم بهذه الصفة إلا أن الملائكة يسبحون بحمد ربهم لا يفترون، ويستغفرون لمن في الأرض‏.‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏‏:‏ أي يغفر لهم مع كثرة عصيانهم‏.‏ وفي الوقت الذي يرتكب فيه الكفارُ هذا الجُرْمَ العظيمَ بسبب شِرْكهم فإنه- سبحانه- لا يقطع رِزْقَه ونَفْعه عنهم- وإنْ كان يريد أَنْ يعذِّبَهم في الآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏6‏)‏‏}‏

المشركون اتخذوا الشياطين أولياءَ مِنْ دونه، وذلك بموافقتهم لها فيما توسوس به إليهم‏.‏ وليس يخفى على الله أمرُهم، وسيعذبهم بما يستوجبونه‏.‏ ولستَ-يا محمد- بمُسَلَّطٍ عليهم‏.‏

وفي الإشارة‏:‏ كلُّ مَنْ يعمل بمتابعة هواه ويترك لله حدَّاً أو ينقض له عهداً فهو يتخذ الشياطينَ أولياءَ، والله يعلمه، ولا يخفى عليه أمره، وعلى الله حسابه‏.‏‏.‏ ثم إنْ شاء عذَّبه، وإن شاء غَفَرَ له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

أنزلنا عليكَ قرآناً يُتْلَى بلغة بالعرب لتخوِّفَ به أهلَ مكة والذين حولَها‏.‏ وجميعُ العالَم مُحْدِقٌ بالكعبة ومكة لأنها سُرَّةُ الأرضِ‏.‏

‏{‏وَتُنِذرَ يَوْمَ الْجَمْعِ‏}‏ تنذرهم بيوم القيامة‏.‏ والإنذارُ الإعلامُ بموضع المخافة‏.‏ ويوم الجمع-وهو اليوم الذي يُجْمَعُ فيه الخَلْقُ كلُّهم، ويُجْمَعُ بين المرءِ وعمله، وبين الجسد وروحه وبين المرء وشكله في الخير والشرِّ- لا شكَّ في كَوْنه‏.‏ وفي ذلك اليوم فريقٌ يُبْعَثُ إلى الجنة وفريقٌ يحصل في السعير‏.‏ وكما أنهم اليومَ فريقان؛ فريق في راحة الطاعات وحلاوة العبادات، وفريق في ظلمة الشِّرْكِ وعقوبة الجحد‏.‏‏.‏ فكذلك غداً؛ فريقٌ هم أهل اللقاء، وفريقٌ هم أهل الشقاء والبلاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

إنْ أراد أن يجمعَهم كلَّهم على الهدى والرشاد لم يكن مانع‏.‏‏.‏ وإذاً لا زَيْنَ لهم‏.‏ ولو شاء أن يجمعَهم كُلَّهم على الفساد والعناد لم يكن دافع- وإذاً لا شينَ منه‏.‏ وحيث خَلَقَهم مختلفين- على ما أراد- فلا مبالاة بهم‏.‏‏.‏ إنه إله واحدٌ جبَّارٌ غيرُ مأمور، متولٍ جميع الأمور؛ من الخير والشر، والنفع والضر‏.‏ هو الذي يحيي النفوسَ والقلوبَ اليومَ وغداً، ويميت النفوسَ والقلوبَ اليومَ وغداً‏.‏‏.‏ وهو على كل شيءٍ قدير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ‏}‏‏:‏ أي إلى كتاب الله، وسُنَّةِ نبِّيه صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأئمة، وشواهِد القياس‏.‏ والعبرةُ بهذه الأشياء فهي قانون الشريعة، وجملتها من كتاب الله؛ فإنَّ الكتابَ هو الذي يدلُّ على صحة هذه الجملة‏.‏

ويقال‏:‏ إذا لم تهتدوا إلى شيءٍ وتعارضت منكم الخواطر فَدَعُوا تدبيركم، والتجِئوا إلى ظلِّ شهود تقديره، وانتظرِروا ما ينبغي لكم أن تفعلوه بحُكمْ تيسيره‏.‏

ويقال إذا اشتغلت قلوبكم بحديث أنفسكم؛ لا تدرون أبا لسعادة جَرَى حُكْمُكُم أم بالشقاوة مضى اسمُكُم‏؟‏ فَكِلُوا الأمرَ فيه إلى الله، واشتغلوا في الوقت بأمر الله دون التفكُّر فيما ليس لكم سبيل إلى عِلْمِه عن عواقبكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏11‏)‏‏}‏

خَلَقَ لكم من أنفسكم «أزواحاً»‏:‏ أي أَشكالاَ؛ فَخَلَقَ حواءَ مِنْ آدم‏.‏ وخَلَقَ- بسبب بقاء التناسل- جميعَ الحيواناتِ أجناساً‏.‏

‏{‏يَذْرَؤُكُمْ‏}‏‏:‏ يُكْثِر خَلْقكم‏.‏ «فيه» الهاء تعود إلى البطن أي في البطن، وقيل‏:‏ في الرَّحِم، وقيل‏:‏ في التزويج‏.‏

‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئ‏}‏ لأنه فاطر السموات والأرض، ولأنه لا مِثْلَ يُضَارِعهُ، ولا شكلَ يشاكله‏.‏ والكاف في ليس «كمثله» صلة أي ليس مثله شيء‏.‏ ويقال‏:‏ لفظ كمثله شيء وهو هو، فلمَّا قال‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِه شَئ‏}‏ فمعناه ليس له مثل، والحقُّ لا شبيهَ له في دلاته ولا في صفاته ولا في أحكامه‏.‏

وقد وقع قومٌ في تشبيه ذاته بذات المخلوقين فوصفوه بالحدِّ والنهاية والكون في المكان، وأقبحُ قولاً منهم مَنْ وصفوه بالجوارح والآلات؛ فظنوا أن بَصَره في حدقة، وسَمْعَه في عضوٍ، وقدرته في يدٍ *** إلى غير ذلك‏.‏

وقومٌ قاسوا حُكْمَه على حُكْمِ عباده؛ فقالوا‏:‏ ما يكون من الخَلْقِ قبيحاً فمنه قبيح، وما يكون من الخَلْق حسناً فمنه حَسَنٌ‏!‏‏!‏ وهؤلاء كلهم أصحاب التشبيه- والحقُّ مستحِقٌّ للتنزيه دون التشبيه، مستحق للتوحيد دون التحديد، مستحق للتحصيل دون التعطيل والتمثيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

«مقاليد» أي مفاتيح، والمفاتيح للخزائن، وخزائنه مقدوراته‏.‏ وكما أن في الموجودات معادن مختلفة فكذلك القلوب معادن جواهر الأحوال؛ فبعض القلوب معادن المعرفة، وبعضها معادن المحبة، وبعضها للشوق، وبعضها للأُنْس‏.‏‏.‏ وغير ذلك من الأحوال كالتوحيد والتفريد والهيبة والرضا‏.‏ وفائدة التعريف بأن المقاليد له‏:‏ أَنْ يقطع العبدُ أفكارَه عن الخَلْق، ويتوجَّه في طلب ما يرد من الله الذي ‏{‏يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ‏}‏، والذي هو ‏{‏بِكُلِ شَئ عَلِيمٌ‏}‏‏:‏ يوسِّع ويضيِّق أرزاقَ النفوسِ وأرزاقَ القلوب حسبما شاء وحَكَمَ وعَلِمَ‏.‏